أحدث الكتب

الخميس، 28 يناير 2016

الإسراء والمعراج رحلة بالروح أم بالروح والجسد ؟ بحث تفصيلي

 
 
كنت قد أعددت بحثا تفصيليا في بعض قضايا الإسراء والمعراج لكني آثرت أن أعرضه كاجزاء منفصلة ليجد كل باحث عن قضية من قضايا الإسراء والمعراج غاية ما يبحث عنه
 وهنا سنتعرض للجزء الأول من مبحثنا في الإسراء  والمعراج
 
والمتعلق بكونها رحلة بالروح فقط أم بالروح والجسد 



أما الإسراء فهو الرحلة الأرضية الليلية التي هيأها الله عز وجل لرسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالشام، وأما المعراج فما تلا ذلك من عروج إلى السماء، من القدس إلى السموات العُلا إلى مستوى لم يرق إليه بشر من قبل ، إلى سدرة المنتهى .
ومنذ القدم ورحلة الإسراء والمعراج قد أثارت كثيرا من المُناقشات حول كيفيتها وهل كانت بالروح فقط أم بالروح والجسد ؟ وهل كانت مرة واحدة أم أكثر من مرة ؟ ومتى كان وقتها بالتحديد ؟ ولماذا المعراج من بيت المقدس ؟ وهل رأى النبي ربه في هذه الرحلة ؟
تساؤلات عدة يسر الله جمعا من علماء الأمة إلى التصدي لها وتوضيحها وتفسير مُشكلها لئلا يلتبس على الناس الأمر وتتضارب عليهم الأقوال ، ولعلنا نتصدى لبعض من هذه التساؤلات بشيء من التفصيل لما لهذه الرحلة من مكانة عظيمة في الإسلام ، ولما في رموزها من دلالات ومعان نحن في أمس الحاجة إلى التعرض لها بعدما أصاب مسرى الرسول ما أصابه من ذل واحتلال .
لا شك أن رحلة الإسراء والمعراج كانت هبة عظيمة من الله عز وجل إلى رسوله كان لها أكبر الأثر في نفسه وفي دعوته وبل وفي أمته من بعده، ونظرا لتعدد الروايات التي نقلت مراحل هذه الرحلة العجيبة فقد حاول البعض جاهدا في أن يوفق بين هذه الروايات وما قد تتضمنه من اختلافات فدفعهم هذا إلى القول بأن هذه الرحلة لم تكن مرة واحدة ، فقال البعض كانت مرتين الأولى مناما وكأنها توطئة لرسول الله والثانية يقظة ، وذهب البعض إلى القول بأنها وقعت ثلاث مرات الأولى قبل الوحي واثنتان بعده، بل لقد تجاوز البعض فعد إسراآت عدة قبل البعثة وبعدها في مكة وفي المدينة، وبقدر اختلاف الروايات عدوا الوقائع .
والقول بتكرار وقوعها سواء توطئة أو يقظة لم يثبت عن النبي أو أنه أشار إلى تعدد وقوعها، كما أن أحدا من أصحابه ومن تبعهم قد نقل للناس تعدد وتكرار وقوعها، بل إن كل من ذهبوا إلى تكرار وقوعها لم يستندوا إلا للاختلافات التي بين الروايات التي روت هذه القصة، وكل الروايات التي تحدثت عن هذه الرحلة العجيبة قد اتفقت على فرض الصلاة في هذه الرحلة وتردد النبي بين موسي عليه السلام وبين ربه ليخفف الصلاة عن أمته فتصير خمسا في العمل وخمسين في الأجر، أفي كل رحلة يبدأ الأمر من جديد ! تُفرض من جديد خمسين ثم تُخفف إلى خمس ! إن القول بتعدد مرات وقوعها قول تأويلي حاول به بعض العلماء الجمع بين الروايات، في محاولة منهم لدفع ما قد يتعارض بين بعض ألفاظها، وما دام الله عز وجل لم يخبرنا بتعدد وقوع هذه الرحلة وما دام رسوله لم يتحدث عن تكرار وقوعها، وما دام أصحابه لم يشيروا إلى تكرار وقوعها ويثبت عنهم صراحة، فالأولى أن نؤمن بوقوع هذه الرحلة مرة واحده وهي بعد البعثة وقبيل الهجرة وقد فُرضت فيها الصلاة .
أما عن كونها بالروح فقط أو بالروح والجسد، فهو من أكثر القضايا جدلا في هذه الرحلة، منذ القدم وحتى الوقت الحالي
قال القاضي عياض في "الشفا " اختلف السلف و العلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده ؟ على ثلاث مقالات :
ذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، و أنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي، وإلى هذا ذهب معاوية و ما حكوا عن عائشة رضي الله عنها " ما فقدت جسده ، وقوله " بينا أنا نائم " و قول أنس وهو نائم في المسجد الحرام ... و ذكر القصة ، ثم قال في آخرها " فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام " .
و قالت طائفة : كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس ، و إلى السماء بالروح ، واحتجوا بقوله تعالى " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (1)فجعل [إلى المسجد الأقصى ] غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة ، والتمدح بتشريف النبي به، و إظهار الكرامة له بالإسراء إليه، وقال هؤلاء "و لو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره فيكون أبلغ في المدح "
وذهب معظم السلف و المسلمين إلى أن هذه الرحلة كانت بالجسد وفي اليقظة وهذا هو الحق، وهو قول ابن عباس، و جابر، و أنس، و حذيفة ، وعمر، وأبي هريرة، ومالك بن صعصعة، و ابن مسعود ، و الضحاك ، و سعيد بن جبير، و قتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، والحسن، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج ....
وهو دليل قول عائشة، وهو قول الطبري، وابن حنبل، جماعة عظيمة من المسلمين وقول أكثر المتأخرين من الفقهاء و المحدثين و المتكلمين و المفسرين "
هكذا بين القاضي عياض رحمه الله حقيقة الاختلاف وعلة كل فريق ، ولعلنا نقف على بعض الأدلة التي تؤكد حقيقة ما ذهب إليه معظم السلف وأئمة المسلمين من أنها كانت رحلة بالروح والجسد .
قال تعالى [ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (1) فكلمة عبد تُعني "مجموع الروح والجسد " ولا تُطلق على الروح فقط ،
كذلك قول الله عز وجل (سبحان ) فالتسبيح إنما يكون عند عظام الأمور، فأيهما أشد عظمة وأدعى إلى الإبهار وإظهار قدرة الله عز وجل، أن تكون الرحلة بالجسد والروح، أم أن تكون مناما بالروح فقط ؟
كذلك قول الله تعالى في سورة النجم [مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى] (2) وقول الله عز وجل [وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ](3) فالبصر من أدوات الذات لا الروح .
كذلك قول الله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ] (4)
ففي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ (5)
وفي هذا دليل على جواز استخدام كلمة رؤيا على رؤية العين وإن كان أكثر استعمالها على رؤيا النوم (6)
كذلك قول الله تعالى " فِتْنَةً لِلنَّاسِ " دليل على كونها بالجسد والروح معا ، وإلا فإن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها .
كما أن النبي قد أقر بوجود البراق الذي انتقل به إلى المسجد الأقصى ونعته بصفاته ، وهذا يعنى أن النبي كان بروحه وجسده وإلا فما حاجة الروح فقط إلى البراق الذي هو مخلوق مادي يحتاج إلى جسد مادي يركبه !ففي صحيح مسلم أن النبي قال (فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ) (7) ألا يُعنى هذا أنها رحلة بالروح والجسد .
كذلك الثابت أن قريشا قد بادرت إلى تكذيب الرسول حينما أخبرهم بهذه الرحلة حتى أن بعض المسلمين قد ارتدوا كُفارا ، فما الذي يحمل قريشا على تكذيب هذا الحديث إلا كونه يقظة ، فلو كان مناما لتساوى عندهم بقول الرسول عن الملك الذي يأتيه من السماء في طرفة عين .
أما من خالف أقوال كل من سبق وغفل عن كل هذه الحُجج وذهب إلى أنها حالة من الصفاء النفسي الذي يكشف الحُجب، فهو دليل على حكم العقل على حدوثها، وقياس المعجزات بقدرة العقل على إدراكها قياس خاطئ ، فالمعجزة مُبهرة لما ألفه الناس وما يستطيع العقل إدراكه، وإلا فأين وجه الإعجاز فيها .
أما عن تحديد وقتها فقيل كانت قبل الهجرة بسنة وقيل بستة أشهر وقيل غير ذلك، وقيل كانت في شهر رجب وقيل في ربيع الأول وقيل غير ذلك، والثابت أنها بعد وفاة خديجة رضي الله عنها لأنها لم تدرك فرض الصلاة التي فرضت في رحلة المعراج، والميل إلى أنها كانت قبيل الهجرة أقرب فقد كانت بمثابة نقطة فاصلة في تاريخ الدعوة وبداية حقيقة لطور جديد في تاريخها، فما بعدها كان منح متتالية تتخللها محن وابتلاءات حتى كتب الله لرسالته النصر والتمكين .
وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن الانشغال بتحديد أزمنة الأحداث التي لم يثبت فيها نص صحيح أمر لا يطالبنا به الشرع ولا يقوم عليه كبير نفع بل قد يكون على حساب القيمة الحقيقية لهذه الأحداث وأوجه الاستفادة منها ، فالشرع لا يُلزمنا بتحديد اليوم الذي ولد فيه الرسول على وجه الدقة، وإنما يلزمنا بإتباع سنته وحمل رسالته، كذلك لا يلزمنا بتقصي الأخبار في معرفة وقت رحلة الإسراء والمعراج، وإنما يلزمنا بالإيمان بها وتصديق ما ثبت عن النبي أنه قاله عنها وأن نعي ما حوته من رموز ومعان وما تضمنته من دروس وفوائد، وأن نعي قدر الصلاة التي نزل بها الرسول من فوق سبع سموات .
أما عن الإسراء إلى بيت المقدس ثم العروج من هناك إلى السموات العُلى، فله معنى كبير ودلالة عظيمة ، ورمز جدير بأن يُعتنى به وأن يُشار إليه .
لقد كان بيت المقدس هجرة غالب الأنبياء من قبل الرسول الكريم وكانت القدس أرض النبوات السابقة، فكان فيها إبراهيم وإسحق ويعقوب وسليمان وداود وعيسى وغيرهم كثير من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين، كما أنها أرض المحشر كما أخبر بذلك رسول الله فقال" الشام أرض المحشر والمنشر "(8)
وفيها الخلافة الراشدة في آخر الزمان، فقد روى أحمد في مسنده عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوَالَةَ الأَزْدِيُّ أن رسول الله قال له « يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلاَفَةَ قَدْ نَزَلَتِ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فَقَدْ دَنَتِ الزَّلاَزِلُ وَالْبَلاَيَا وَالأُمُورُ الْعِظَامُ وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ » (9)
فالأرض المُقدسة هي أرض الهجرة وأرض المحشر وأرض الأنبياء وأرض الخلافة الراشدة آخر الزمان، وها قد أُوحي إلى محمد وهو آخر الأنبياء والمرسلين من أرض العرب، فكانت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس ثم إمامة الأنبياء بالمسجد الأقصى بمثابة انتقال القيادة إلى نبوة جديدة لنبي خاتم برسالة خاتمة للناس كافة في كل زمان ومكان، ولأمة هي خير أمة أخرجت للناس، فأراد الله عز وجل أن يثبت عموم هذه الرسالة وأن صاحبها ليس كمن سبقه من الرسل يُبعث إلى قومه خاصة، وإنما برسالة عالمية جديدة صالحة للناس كافة قد نسخت كل ما سبقها من الرسالات، وجاءت بما يناسب حاجة الناس من تشريع وأحكام إلى قيام الساعة .
كما أراد الله عز وجل أن يربط وجدان المسلمين ومشاعرهم بالمسجد الأقصى الذي خصه الله بالذكر في القرآن فقال عنه (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) فأراد الله عز وجل أن يربط عقول الأمة وأفئدتها بهذا المسجد الذي لا يقل في تقديسه عن المسجد الحرام والمسجد النبوي، وأن التفريط في أحدهما يعني إمكانية التفريط في الآخرين .
وقد صح عن النبي أنه قال « لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلاَثًا حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ ، وَمُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ،وَأَلاَّ يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فِيهِ إِلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » فَقَالَ النَّبِي ُّ « أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِىَ الثَّالِثَةَ » (10)
وقال « لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى » (11)

أسامة عبد العظيم




(1) (الإسراء:1) (2){النَّجم:17} (3) {النَّجم}
(4){الإسراء:60} (5)البخاري3888
(6)الرؤية لغة: يقال رؤية العين ورؤيا العين ، ما تراه الباصرة، وجمع الرؤية رُؤَى . ورؤية العين معاينتها للشيء، وقال ابن سيده: الرؤية النظر بالعين وبالقلب ، كما في لسان العرب لابن منظور مادة (رأى)
(7)(مسلم429)
(8)صحيح وضعيف الجامع الصغير 3726وقال الألباني صحيح ، وصححه في جامع الترمذي 5/719حديث3918
(9)مسند أحمد 23150 وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير 7838
(10) سنن ابن ماجة 1473وقال الألباني في صحيح ابن خزيمة 1334 صحيح لغيره
(11)البخاري 1189ومسلم 3450

إرسال تعليق

 
جميع الحقوق محفوظة © 2015 كتب مجانية

تعريب مداد الجليد